بسم الله الرحمن الرحيم
و صلى الله على سيدنا محمد و آله الطاهرين
زينب رمز العزة والكرامة
السيدة زينب (ع) سليلة بيت الوحي، وعقيلة الطالبيين، مثال المرأة المؤمنة الطاهرة
الصابرة المحتسبة، أخلصت لربها وعملت لخدمة دينها، وورثت جلال وعظمة فاطمة (ع)،
فاستحقت أن تكون بذلك تالياً للمعصوم، عالمة غير معلمة وفهمة غير مفهمة.
يشتبه بعض الخطباء أو الباحثين أحيانا حين يصورون لنا السيدة زينب (ع)، وكأنها المرأة
المكسورة، مهيضة الجناح، والمتعبة التي فقدت أحبتها فيأست من الحياة، تسترحم
أعدائها تارة وتشكو بثها وحزنها تارة أخرى، والأمر في واقعه ليس كذلك أبدا، فزينب
الملقبة بجبل الصبر لا يمكن إلا أن تكون جبلا لا تهزه العواصف، ولا تنحني للمحن
والهزاهز، بل تتكسر عليه يائسة كل أباطيل الزيف والضلال، وتأبى زينب إلا أن تكون بنت
علي، وهل يهزم علي وهو الذي يقول (لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها).
فكيف لزينب أن تلامس الانكسار؟!..
إن المتتبع لحياة السيدة زينب (ع) يجد أنها قد أعدت منذ صغرها للمهمة العظيمة والتي
تمثل هي فيها المحور الأساس لإبراز مظلومية الإمام الحسين (ع) ومن قتل معه من
أصحابه، ولنشر أفكار وأهداف الثورة الحسينية، فرعاها جدها وأمها وأبوها كل الرعاية،
وأحاطوها بعناية فائقة وتربية خاصة، تمهيدا لتلك الملحمة الكبرى، لتأخذ زينب دورها
المكمل لدور الإمامة نصرة لدين الله.
لقد عاشت السيدة زينب (ع) المحنة منذ طفولتها، منذ وفاة جدها رسول الله (ص) مرورا
بموت أمها المفجع وأبيها وأخيها الحسن (ع)، وصولا إلى الفاجعة الكبرى في كربلاء،
تكابد الآلام بقلب كزبر الحديد، فكانت تخرج من كل مصيبة قوية، صلبة، تزيدها المصائب
تألقا وثباتا.
عايشت بنت علي كل تفاصيل معركة الطف، فكانت إلى جنب الحسين تشد من أزره،
وتضمد جراحه، وتتزود من تعاليمه وتوجيهاته، شريكة في الثورة لم يوهنها عظم
المصاب، حامية للحرم والعيال لم يضنها طول العذاب، كيف لا وهي التي لم تترك صلاة
الليل حتى في ليلة الحادي عشر، وإن كان من جلوس، وما صلاتها من جلوس إلا لضعف
في البدن لا لضعف في الروح، فروحها وهمتها عالية للعبادة والعمل، وهي التي قد
خرجت في الليلة نفسها إلى المعركة حيث انفرج لها الجيش سماطين حتى وصلت إلى
جسد الشهيد لتصنع لنا موقفا سجله التاريخ، ووقف له ابن سعد حائرا، إذ كان يأمل أن
يرى الانكسار على وجه زينب، وإذا بها تمثل الشموخ في أعلى صوره، والعزة في أبهى
معانيها، حين ترفع ذلك الجسد الطاهر فتقول : (اللهم!.. تقبل منا هذا القربان)، وما زادت
على ذلك.
بأبي التي ورثت مصائب أمها --- فغدت تقابلها بصبر أبيها
لم تلهو عن جمع العيال وحفظهم --- بفراق إخوتها وفقد بنيها
لم تعرف السيدة زينب (ع) الانكسار يوما، ولم تستسلم للمآسي مهما كان حجمها،
فهي أكبر نفسا من الحوادث، وأقوى شكيمة من الجبابرة مهما بلغ طغيانهم، ألم تخاطب
ابن زياد وهو متبختر في مجلسه، فخور بما حقق من انتصار زائف فكان بينهم الحوار
التالي حيث خاطبها ابن زياد : (الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم) فأجابت بكل
هدوء الواثق : (الحمد لله الذي أكرمنا بالنبوة، وطهرنا من الرجس تطهيرا، إنما يفتضح
الفاجر ويكذب الفاسق)، فقال متطاولا : (وكيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟)،
فأجابت وملؤها الفخر : (ما رأيت إلا خيرا، هؤلاء قوم كتب عليهم القتل فبرزوا إلى
مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك
يا بن مرجانه) فأي شجاعة هذه وأي بطولة أرتهم ابنة حيدر حيث قعد الرجال، وجبن
الأبطال، وانبرت هي تدافع وتنافح عن حياض الشهداء حتى شعر الظالم بالخيبة.
ولقد وقفت في وجه أهل الكوفة تؤنبهم وتوبخهم حين تصدقوا على الأطفال الأسارى
من أهل البيت النبوي الكريم قائلة : (يا أهل الكوفة، نحن أهل البيت، لا تحل علينا
الصدقات) ، رغم الحاجة والجوع إلا أنها تفصح بذلك عن نفس عزيزة لا تذل للأعداء، ولا
تريهم أي شكل من أشكال الخنوع أو الانكسار، ولم تترك لهم ولو ثغرة واحدة للشماتة،
ومن ناحية أخرى كم وقفت ودافعت عن مقام الإمامة المتمثل في الإمام زين العابدين
(ع)، فحمته وفدت نفسها دونه، وانتصرت زينب في النهاية، لأن الحق لا يمكن له أن
يهزم، وكيف يهزم من كان الله ناصره (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) .
وبعد أليست هي من واجه طاغية عصره يزيد (لع) بعدما تمادى في غيه وتعديه وشتمه
لآل رسول الله (ص) لتقول له : (ولئن جرت على الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر
قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك) ثم أمعنت العقيلة في إذلال هذا الظالم
وإشعاره بحقارته واسترسلت تقول : (فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك، فوالله لا
تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي
المنادي ألا لعنة الله على الظالمين) ، نعم، خطبت زينب قصمتت الأصوات وكممت
الأفواه، فما بعد قولها قول، ولا بعد موقفها موقف، فأحس الطاغية أن عرشه يهتز تحت
قدميه، وقد أطلت بوادر الثورة ضده، فراح يمارس خسته بنكث ثنايا أبي عبد الله
بمخصرته.
فهل يجوز بعد هذا الخطاب الرسالي والبطولي لقائل ان يصور لنا زينب منكسرة حزينة
مهمومة مغمومة، كلا وألف كلا، فابنة الخمسين قد ملئت حماسة لا نظير لها، أخرست
بها ألسن المتجبرين وكانت بحق اللسان المعبر عن الثورة وصاحبها، والمشعل الذي
حمل أهدافها السامية، لتبقى هذه الكلمات مزود الأجيال، وملهمة الثوار عبر الدهور.
وهل اكتفت زينب بذلك؟، وهل تلقي عصاها ويستقر بها النوى وهي ترى الطغاة من آل
أمية يعيثون في الأرض فسادا؟ اتخذوا مال الله دولا، وعباده خولا، لا يمكن لزينب أن
تفعل ذلك، إذ راحت تفضح أعمالهم، وتظهر مخازيهم، وتؤلب الناس ضدهم، حتى ضاق
بها والي المدينة ذرعا، فكتب لأميره في الشام إن كان لك حاجة في المدينة فأخرج منها
زينب، وأخرجت زينب ولكن إلى أين... إلى موطن حكمهم الشام لنراها اليوم شامخة،
تطاول قبتها السماء، مهوى القلوب العطشى للحرية والكرامة، في الوقت الذي نرى فيه
بني أمية في مزابل التاريخ، تذروهم رياح العفن.
هذه لقطات فقط، وملامح من مواقفها تدل على ما حوته نفسها الطاهرة من مكتسبات
تلقتها من ذلك البيت النبوي الكريم، فالحكمة والبلاغة من جدها رسول الله، والبطولة
والفصاحة من أبيها علي، وقوة الجنان ورباطة الجأش من أمها فاطمة، والصبر والحلم
من أخيها الحسن، والإباء والتضحية من أخيها الحسين، فجاء ت خليطا علويا ملكوتيا، لا
تدانى في علوها، ولا تقارب في هيبتها، تنحني لها الرؤوس إكراما وإجلالا، فالسلام على
زينب وهي تمثل الجلال والكمال، والسلام على زينب وهي جلباب الصون والعفاف،
والسلام على زينب وهي مثال البطولة والعطاء، والسلام على زينب وهي رمز العزة
والكرامة.
منقوووووول